عندما نفكر بالعمارة والمدن فإنّ آخر مكانٍ يخطرُ في بالنا هو الصحراء. ففي بيئةٍ قاسيةٍ كهذه، من الصعب التخيل أنّ مدينةً عظيمة ًستختبئ بين رمال الصحراء الذّهبية، بل وستكون من أعظم المدن في التاريخ. إنّها لؤلؤة الصحراء وعروس البادية السّوريّة "تدمر العريقة" التي تتحدى الزمن بشموخها وعبقرية معماريها المبدعين، لتكون من أعظم الممالك التي قامت في تاريخ سوريا والعالم.
تنبع أهمية تدمر من موقعها الاستراتيجي، بالإضافة إلى طبيعة الأرض آنذاك التي كانت غنيةً بالماء والأشجار، إضافةً إلى كونها عقدة وصلٍ علىطرق التجارة القديمة؛ حيث كانت تربط بين بلاد فارس في الشرق وبلاد الروم في الغرب، وبين حضارة وادي النيل في الجنوب والأناضول في الشمال.
وقد مرّت تدمر بمراحلٍ تاريخيةٍ متباينةٍ، لا شكّ أنّها تركت أثرها في كثيرٍ من معالمها الفنيّة والمعماريّة. وكان الاعتقاد سائداً عند الكثير من الناس وعند بعض العلماء المتعصبين أنّ الفنّ والعمارة التدمريّة هي نتاجٌ فكريٌ وعلميٌ إغريقيٌ رومانيٌ، وبهذا أغفلوا حقيقةً تاريخيةً ساطعةً، وهي أنّ بلاد الشّام كانت مهد الحضارة قبل الإغريق والرومان بمئات السنين. ولا يعيب الحضارة التدمريّة أنّها تأثّرت بالحضارتين الإغريقية والرومانية لكنْ دون أن تطمس شخصيّتها المستقلة.
كانت تدمر مدينةً منظمةً ومنسقةً وفق أحدث طرق تخطيط المدن في ذلك العصر على غِرار مدينة بصرى وأنطاكية ودمشق وحلب واللاذقية وأفاميا وغيرها من المدن في بلاد الشّام. حيث يرتكز تخطيط مدينة تدمر على الأسس التي كانت معروفةً في تخطيط المدن السوريّة في العصرين الهيلينيستي والرّوماني. وهذه الأسس تقوم على التخطيط الشطرنجي القديم، أو تقسيم المدينة إلى شارعين متقاطعين تتفرع عنها شوارع فرعيةٌ متعامدةٌ مع الشّارعين الرّئيسيين، بزوايا قائمة. وتتشكّل بين الشوارع الفرعية جزرٌ واسعةٌ تُستخدم لبناء أهمّ المباني الرّسمية والمعابد، وتتقاطع الشّوارع الرّئيسيّة مع الفرعيّة مشكّلة ًما يشبه رقعة الشّطرنج.
ولعلّ أهمّ تلك المباني وأعظمها المسرح وهو موضوع مقالتنا لهذا اليوم.
إذ لم تقتصر العمارة على تأمين المأوى والمباني الدينيّة وتوفير المرافق الأساسيّة للحياة كالأسواق وغيرها وحسب، بل تجاوزتها لتؤمّن عناصر التّرفيه والمتعة التي بدأ البحث عنها مع إزدياد تعقيد المجتمعات وتركيبها. وبذلك بدأت الخطوات الأولى لإنشاء المسارح. وذلك يدل على أن العمارة تنمو وتزدهر بنمو المجتمعات وتطورها، وتتكيّف وتتلاءم مع إحتياجاتهم، فكلّما كان الفكر أغنى، والمجتمعات أقوى، إنعكس ذلك على عمارتهم؛ لتكون بذلك تعبيراً عن الإنسان في كافة نواحي حياته.
المسرح في تدمر:
بُني المسرح على أرضٍ مستويةٍ، وقد تم بناء الهيكل وسط ساحةٍ نصف دائريةٍ ذات أعمدةٍ تفتح على البوابة الجنوبية لمدينة تدمر، وقد ربط المعمار بين الشّارع الرّئيسيّ والمسرح بواسطة رواقٍ مشترك.
المدرّجات:
يتألف المسرح من المنصة والأوركسترا والمدرّجات، وقد بني من الحجارة الكلسيّة وأتخذت مدرجاته شكلاً نصف دائري، تتجه نحو الشّمال الشّرقي بحيث تواجه الشّارع الرّئيسيّ(الكاردو مكسيموس)، وتتوزع في /13/ صفاً، إرتفاع الواحد منها /37/ سم وعرضه /60/سم، يفصل بينها ممراتٌ متوزعةٌ بشكلٍ شعاعيّ. ويتسع المدرج لحوالي /1500/ مقعدٍ موزعةٌ بدقةٍ متناهيةٍ بحيث يمكن للجالس في أيّ نقطةٍ من نقاط المدرّج رؤية ما يدور على منصة التمثيل بوضوح ٍ ودونما عائق، وإذا مددنا حبلاً من أعلى المدرج إلى أسفله تراه يمُسّ رؤوس كلّ المقاعد مما يدل على دقّة النسب المستخدمة ودقّة التنفيذ.
البوابات والأوركسترا:
للمسرح ثلاث بواباتٍ، الشّرقيّة والغربيّة على الجانبين وتُفتحان على الأوركسترا عبر ممرّين معقودين، أمّا البوابة الجنوبيّة فمستطيلة الشّكل وقد كانت تُستخدم لإدخال الحيوانات المفترسة.
وهذه البوابات على سويةٍ واحدةٍ مع الأوركسترا ذات الشّكل المستدير والمبلّط بالحجارة والذي يبلغ قطره /23.5/ م. ويفصل الأوركسترا عن المدرجات جدارٌ حجريٌ ارتفاعه مترٌ واحد ويبلغ قطره /20.3/ م. وتظهر على هذا الجدار حفرٌ ونتوءات كانت تُستخدم سابقاً لتثبيت سياجٍ معدنيّ للحماية من الحيوانات المفترسة.
وعند البوابة الشماليّة الغربيّة للمسرح كانت تتواجد محلاتٌ لبيع الطعام والشّراب ولها لافتاتٌ حجريةٌ عليها كتاباتٌ يونانيةٌ تعلن عن بضاعتها.
تاريخ المسرح:
أما بالنسبة إلى تاريخ بناء المسرح فإنّ بعض الوثائق تدلّ على أنّ البناء تمّ في النصف الأولّ من القرن الثّاني الميلاديّ، بينما شُيّدت المنصّة في أواخر القرن الثّاني وأوائل القرن الثّالث، وأُعيد بناؤه بعد إنهياره عام 273م عندما سيطر الرّومان على المدينة.
وقد بقي المسرح مدفوناً في الرمال، ولم يتمّ الكشف عنه حتّى خمسينيات القرن الماضي حيث جرت أعمال التّنقيب والتّرميم في العام 1952م، وقد تمّ تنظيف المسرح من الرّمال وخضع لأعمال ترميمٍ واسعة النطاق في أوائل التّسعينيّات. وعُثر خلال عملية رفع أنقاضه على حاملة تمثالٍ دلّت الكتابة المنقوشة عليها أنّ نقابة الدّباغين أقامت تمثالاً بالمسرح لابن الملك أذينة في عام /358/ ميلاديّة.
قبل الصراع في سورية كان المسرح يستضيف عروضاً موسيقيةً شعبيةً لمهرجان تدمر السّنويّ، وكانت تُقام فيه العديد من المهرجانات التراثيّة الفنيّة والفعاليات الثقافيّة. سيطر عليه تنظيم داعش في أيار عام 2015 ،واستعادته القوات الحكومية في آذار عام 2016، وفي ذلك الوقت أظهرت لقطات الطائرات بدون طيار أنّ المسرح لا يزال سليماً إلى حدٍ كبيرٍ.
وقد سيطر داعش على تدمر مرة أخرى في كانون الأول 2016، وخلال هذه الفترة الثّانية، دُمّرت واجهة المسرح بالكامل، حيث تمّت ملاحظة وجود آثار حطام عند المسرح والتيترابيل وذلك في العاشر من شهر كانون الثاني عام 2017م.
هذه بعضٌ من ملامح حضارة تدمر العريقة، التي إنْ دلّت على شيءٍ فإنّما تدلّ على مدى براعة وعبقرية وإتقان المعمار التّدمريّ. حيث لم يتجمّع في أيّ بلدٍ من بلاد العالم أوابد أثريةٌ بتنوعها وإتساعها وإمتدادها على مساحة عشرة كيلومتراتٍ مربعةٍ وسط البادية محاطةً بغوطةٍ غنّاءٍ من الزّيتون والنّخيل والينابيع المعدنية مثلما تجمّع في تدمر.
ورغم كلّ ما حدث لها فلن يدفعنا اليأس أنْ نعتقد أنّ ما دُمّر لن يعود، وكلنا ثقة بأنّ الألق سيعود لها من جديد، فغداً لناظره قريب.
المنصّة:
أمّا المنصّة فهي واسعةٌ نسبياً إذ تبلغ أبعادها /48*105/م، وهي مجهزةٌ بدرجتين من الدّاخل، ودرجتين من الخارج، ولها خمسة أبوابٍ مزينةٌ بجبهةٍ مثلثيّة الشّكل، كما يُزيّن صدر المنصّة عددٌ من الأعمدة الرّشيقة ذات التيجان الكورنثية تحمل إفريزاً بارزاً، والذي يحمل بدوره جبهةً مثلثيةً نقش عليها قرص الشّمس الذي يرمز إلى مدينة تدمر وتتفرّع عنها أشعةٌ على شكل أغصانٍ مثمرةٍ ما يضفي قيمةً جماليةً على البناء والنّمط المعماريّ.
بالإضافة إلى عددٍ من المحاريب والتّجاويف، والتي تؤدي وظيفتين: جماليةٌ ومعماريّة، فهي تُعطي عمقاً للمنصّة يمكّنه من تأمين صدىً للصّوت ليصل الصّوت بذلك إلى كافة أرجاء المسرح بصورةٍ واضحةٍ ودون الحاجة إلى وجود مكبراتٍ للصّوت.